الحج د/عائض القرني




يقول ربنا تبارك وتعالى: وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم [الحج:27]. 

· هذا هو النداء العلوي من الله الواحد الأحد إلى الأمة الإسلامية؛ لتؤدي هذا النسك العظيم، والركن الجليل من أركان الإسلام. 
قام إمام التوحيد إبراهيم عليه السلام ببناء البيت، يحمل الحجر من على كتف ابنه إسماعيل عليه السلام وهما يهتفان:
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم [البقرة:127]. وأكمل البناء، وصعدت الكعبة في السماء ووضع الحق. 
قال إبراهيم لربه: يا رب، ماذا أفعل الآن؟ قال: اصعد على جبل أبي قبيس، أعظم جبال مكة، فصعد إبراهيم، وقال: يا رب، ماذا أقول: قال: وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. 

قال إبراهيم: يا عباد الله، يا قوم حجوا البيت، فأسمع الله دعوته نطفاً في الأرحام، أسمع دعوته الأحياء والكائنات والذرات، فأقبل الموحدون يقولون:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. 

البشرية تلبي، الأرض تلبي، السماء تلبي، الدنيا كلها تلبي، ويشهد لسان الحال أن النصر لهذا الدين، وأن العاقبة للمتقين. 

· ومما يثلج صدور أهل الإسلام أن يخرج من موسكو عصمة الإلحاد ودولة الكفر والبغي والحديد والنار، يخرج منها آلاف الموحدين يلبون كما يلبي الناس:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. إن للحج معانٍ، ومقاصد، ودلالات، ينبغي أن نتعرف عليها، وأن نعيها. فكل العبادات الإسلامية أو غالبها، يطلب من المسلم أن يتجمل لها، وأن يتزين لها، فأفضل الحجاج، الشعث الغبر، وأجمل الحجاج الحفاة، وأعظم الحجاج الجائعون الظمأى. 

وفي
إحرام العبد في ردائين أبيضين، تذكير له بإدراجه في كفنه، فهذا سفر إلى عرفات، وذاك سفر إلى الموقف العظيم، فإذا لبست الإحرام، ذكرك بالكفن، وذكرك بيوم الحشر، وذكرك أنك لم تخرج من الدنيا إلا بهذا الكفن الأبيض. 

خذ القناعـة من دنياك وارض بها لـو لم يكـن لك إلا راحـة البدن 
وانظـر لمن ملك الدنيـا بأجمعها هل سار منها بغير الطيب والكفن؟! 
وفي الإحرام قضايا أخرى: منها المساواة، وهذه من القضايا التي يحرص الإسلام على تقريرها دائماً، فلا يلبس الملوك إلا لباس الإحرام، ولا يرتدي الرؤساء ولا الأغنياء إلا لباس الإحرام، الناس كلهم يشتركون في هذا، فلا تيجان، ولا أكاليل، ولا نياشين، ولا أساور، كل الناس محشورون في صعيد واحد، ليبقى العز والملك والسلطان والجبروت لله تعالى وحده.
كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [القصص:88]. لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [غافر:16]. 
فالكل ذليل، والكل مسكين لكبرياء الله وعظمته. 

· أما الوقوف بعرفة، فهو مؤتمرنا العالمي، وهو سر خلودنا في الأرض، الذي نفاخر به أهل الأرض جميعاً، إنهم يجتمعون في مؤتمراتهم، بدعوات، ومراسيم، وأطروحات، وقوانين، أما أهل الإسلام، في يوم عرفة، فيفترشون الأرض، في الشمس المحرقة، التي تلهب الأجساد. فالله أكبر الله أكبر.. ما أعظم هذا اليوم! 

والله أكبر الله أكبر.. ما أروع هذا اليوم! 

· ثم يفيض الله تبارك وتعالى من رحماته على أهل الموقف، فيتجلى للناس في يوم عرفة، ينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله، يجمع ملائكته فيقول:
((يا ملائكتي، انظروا لعبادي، أتوني شعثاً غبراً ضاحين، أشهدكم أني قد غفرت لهم))

شعثاً، غبراً، ضاحين، تلبدت شعورهم من الشمس، لا دهن، لا طيب، لا ظل، كل ذلك ليرضى الله عنهم. 

إن كان سرّكم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم  تركوا القصور والبساتين والراحة، وجلسوا على التراب تحت حرارة الشمس. 

فاشهد أيها العالم، واسمعي أيتها الدنيا، هذا يوم عرفة، حيث وقف نبينا وقائدنا وزعيمنا، وقف في ردائين باكياً، أشعث، أغبر، يخاطب الدنيا كلها ويكلم الناس جميعاً، إنه وقف هناك ولكننا نذكره هنا، وسوف نذكره في كل مكان، وسوف نذوب في حبه وفي فدائيته وفي دعوته. 

إن محمداً هو تاريخ هذه الأمة وعمقها وعزها، لقد وقف هذا الرسول الكريم في عرفات وأرسى قضايا ثلاث: 
القضية الأولى
القضاء على التمييز
العنصري، لقد ألغى محمد كل ألوان التمييز العنصري، وداس عليه بقدميه، وذلك قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، في حين أن دولة من الدول في عصرنا الحاضر، تتبجح بأنها أعظم دولة في العالم، لا زالت تفرق بين مواطنيها بحسب ألوانهم!!. 
أما في الإسلام فلا أبيض ولا أسود ولا أحمر، لا نسب، لا مال، لا جاه
إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13]. 

· وقف النبي ينادي: يا أبا بكر، يا قرشي، يا سيد، أنت وبلال الحبشي أخوان، لا فرق بينكما عند الله إلا بالتقوى، وقف هناك يقول: يا عمر، يا أبا حفص، يا فاروق الإسلام، أنت وصهيب الرومي أخوان، وقف هناك يقول: يا علي أنت وسلمان الفارسي أخوان. 
إ نْ كِيْدَ مُطَّرَفُ الإخـاء فإننا نغدو ونسري في إخاءٍ تالد
أو يتفرق ماء الغمـام فماؤنا عذبٌ تحدّر من غمام واحد 
أو يختلف نسـب يؤلف بيننا ديـن أقمناه مقـام الوالـد 

أما القضية الثانية: 

فقد أعلن فيها
حقوق المرأة وأنها إنسانة لها شأنها في المجتمع، فهي تمثل نصف الأمة، ثم هي تلد النصف الآخر، فهي أمة كاملة. 
أما الذين يدعون إلى ما يسمى بحرية المرأة، فأولئك هم أعداء المرأة، وقتلة المرأة، لا يريدون إلا أن تكون المرأة جسداً مشاعاً، يفترسه ذئاب الأرض وكلابها. 
أما القضية الثالثة:
 التي قررها رسول الله في هذا الموقف العظيم فهي قضية الإنسان، قضية حقوق الإنسان، فقد نادى هذا النبي العظيم بحقوق الإنسان، وأنه لابد أن يكون محترماً له مكانته بين الناس
وإذا كان هذا الإنسان مسلماً، وإذا كان هذا الإنسان مؤمناً، ازدادت حرمته، وتأكدت حقوقه. (
(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)

· ينظر إلى الكعبة ويقول: ما أعظمك، وما أشد حرمتك، والذي نفسي بيده، للمؤمن أشد حرمة عند الله منك. 

أيها الناس: 

من الذي نادى بحقوق الإنسان، من الذي طبق حقوق الإنسان على واقع الحياة. 

هل جاءت المنظمات العالمية بحقوق الإنسان؟ 
هل طبقت هذه المنظمات العالمية مبادئ حقوق الإنسان؟ 

لا والله، فهؤلاء هم الذين ذبحوا الإنسان، قتلوا الإنسان، سجنوا الإنسان. 

أما محمد فقد أعلن حقوق الإنسان، واحترام الإنسان، وأعلن أن الله مع الإنسان ما دام هذا الإنسان عابداً لله – عز وجل –. 

نزل النبي ، ثم أتى إلى الجبل فوقف من بعد صلاة الظهر إلى صلاة المغرب باكياً، مستغفراً، متواضعاً لله تبارك وتعالى. 

وقف هناك، والبشرية كلها تنظر إليه، وتسمع كلامه، لأن البشرية تعلم أنه :
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم:3-4]. 

وقضايا عرفات أيها الإخوة طويلة طويلة، ومعاني حجة النبي كثيرة، لكنا نبحث في هذا المقام عن المعاني الخفية لبعض هذه القضايا. 

يذهب عليه الصلاة والسلام ليرمي الجمار، وفي ذلك كثير من المعاني منها: 
أولاً: أنك بهذه الحصيات تعلن انتصارك على الشيطان، وتعلن أنك عبد الله، تنفذ أوامره، حتى وإن جهلت حكمة هذا الأمر وتعلن كذلك أن المعركة باقية بين الحق والباطل. 

إن الذين يرمون الجمرات يعلنون صدقهم، وإخلاصهم، وعبوديتهم لله تبارك وتعالى. 

أما عبيد الأغنية، والكأس، والسهرات الحمراء، فلا يعرفون رمي الجمرات، ولا يعرفون الوقوف بعرفات، ولا يعرفون الطواف بالبيت العتيق. 

ثانياً: وفي رمي الجمرات أيضاً انتصار الإنسان على الهوى والتخلص من عبودية غير الله تبارك وتعالى. 

· وصل النبي إلى البيت ليطوف حوله، واستلم الحجر، وأتته ذكريات عند استلام الحجر، فانهارت دموعه كالمطر، فالتفت إليه عمر وقال: ما هذا يا رسول الله ؟ قال: (
(هنا تسكب العبرات يا عمر)). 

تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ومن عادة المحزون أن يتذكرا 

فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، ما أطهرك، ما أعظمك. 

نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا 

نُلام على محبّتكم ويكفي لنا شرفٌ نلام وما علينا 

ولمـا نلقكم لكن شـوقاً يذكـرنا فكيف إذا التقينا 

تسلّى الناس بالدنيا وإنـا لعمر الله بعدك مـا سلينا 
 
(
(من ذهب يحج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))، تماماً كيوم ولدته أمه، مبرأً من الذنوب والمعاصي والخطاياً. 

كانت قريش تقف في مزدلفة، والناس يقفون في عرفات، فأنزل الله تبارك وتعالى:
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة199]. اصعدوا مع الناس، وقفوا مع الناس، لا تمييز، ولا تفرّق، وإنما وحدة واجتماع. 
· إن يوم عرفة هو يوم تحطيم الطاغوت، وإظهار لقول لا إله إلا الله. 
 

وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم [الأنفال:63]. 

· هذه بعض معاني الحج، ولكن من ذهب إلى هناك، فسوف يعيشها حيّة في الليل والنهار. 

تقبل الله من الحجيج حجهم، وسمع دعاءهم، وشكر سعيهم. 






0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
//