أحمد خالد توفيق
aktowfik@hotmail.com
مواضيع كثيرة جدًا تستحق الكتابة عنها هذا الأسبوع.. كثيرة لدرجة أن الأمر يشبه أن تحمل كيسًا مليئًا بالبيض، فيهشم بعضه بعضًا.. في النهاية تجد أنك لا تحمل بيضًا بل كيسًا يحوي سائلاً لا شكل له. هل تكتب عن موضوع البشير وبدء موسم اعتقال الرؤساء العرب؟.. أم تكتب عن الإضرابات التي تملأ مصر اليوم؟ أم تكتب عن تضخم شريحة معينة من المجتمع لا تكف عن استعراض نفوذها وقدرتها علي مخالفة القانون؟..
أم تكتب عن السلوك الجماعي المرعب الذي يظهر كلما احتشد الشباب في مكان ما، وهو ما بلغ ذروته مع حفل «أكون» المطرب السنغالي العالمي في الأوبرا، الذي تحرشوا به شخصيًا؟
أعتقد أن أكثر المواضيع سخونة هو «البشير»، ومنذ البداية يجب أن أقول إنني لا أحمل غرامًا ملتهبًا تجاه الرجل. لماذا؟.. تعال نرتب الأسباب معًا:
السبب 1: كنت أهيم حبًا وافتتانًا بشخصية «سوار الذهب» الذي أراه أعظم رجل عرفته الأمة العربية خلال ثلاثين عامًا، وهو الرجل الذي قام بانقلاب عسكري كي ينتزع السودان ويضعه في يد أهله.. تأكد من أنهم سيعرفون كيف يدبرون أمورهم ثم انصرف.. لا يريد حكمًا ولا ثروة ولا نفوذًا.. كأنه شخصية أسطورية لا تقابلها إلا في الأدب الشعبي.. لكن كل ما قام به «سوار الذهب» تلاشي مع قدوم «البشير» عام 1989، بانقلاب عسكري أطاح بحكومة الأحزاب الديمقراطية، ليقول في حوار صحفي مبكر جدًا: «أنا خُلقت كي أحكم.. إما أن أحكم أو أموت !». استفزت هذه المقولة أحد كتاب جريدة «الأهالي» المرموقين، فقال ساخرًا: «هذا صحيح.. البقاء في الحكم هو الضمان الوحيد له كي لا يحاكم ويُعدم..».
السبب 2: كان للبشير دور مهم في تسليم المناضل الفنزويلي «كارلوس» الذي لجأ لبلاده.. «كارلوس» هو جيفارا مصغر بالنسبة لجيلي.. رجل قاتل تحت راية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأثار رعب إسرائيل وأمريكا في كل بقاع الأرض، وهو الذي أشرك معه الجيش الأحمر الياباني وبادر ماينهوف وإيتا.. أي أنه جند كل ثوار العالم لخدمة القضية الفلسطينية. قصة حياة كارلوس أسطورية وجديرة بالسينما.. في النهاية لجأ إلي السودان تحت حماية البشير.. البشير الذي سلمه للمخابرات الفرنسية في أغسطس عام 1994 ليقضي باقي حياته في السجن. علي فكرة كان كارلوس مسلمًا وليس شيوعيًا إذا خطر للبعض أنه يستحق ما حدث له !
السبب 3: لم يكف البشير لحظة عن استعمال ورقة الدين وعلاقته بحسن الترابي متي أراد ذلك.. يضع الترابي علي العين والرأس ويدعو معه لتطبيق الشريعة، ثم ينسي الأمر برمته ويزج بالترابي في السجن. هكذا ظل يرفض مطالب الجنوب في استعلاء ثم اضطر لتوقيع اتفاق سلام معه عام 1996 وقابل «جون جارانج» عام 2002 ليوقع اتفاق «مشاكوس»، وبهذا اكتفي بتطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال دون الجنوب. بالمناسبة.. هل أنت مطمئن تمامًا لحادث الطائرة الذي أودي بحياة «جارانج»؟
السبب 4: وماذا عن محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا؟.. ألم تتجه أصابع الاتهام نحو السودان بقوة وقتها؟. الترابي أكد في أكثر من حديث أن التخطيط كان سودانيًا أشرف عليه ثلاثة من رؤساء الأمن. وقال الترابي إن هؤلاء أبعدوا ثم أعادهم البشير لمواقع عالية في السلطة، وقال مرات أخري إن معظم من يعرفون الحقيقة أعدموا أو قتلوا.. الخلاصة أن هناك الكثير من الغبار حول الموضوع.
السبب 5: لا يجب أن نرفض التقارير الغربية لمجرد أنها غربية.. إن التقارير صادرة عن جهات مستقلة فعلاً ومحترمة ومن بينها «هيومان رايتس ووتش»، وهذه الجهات تؤكد أن البشير ساند حركة «الجنجاويد» من أجل الإبادة العرقية لشعب «دارفور».. اغتصاب جماعي.. حرق قري.. إعدام بالجملة.. والغرض تغيير ديموجرافية إقليم دارفور الثري . الجنجاويد لفظة تعني ركاب الخيول الذين يقاتلون بالبنادق الآلية.. يعني هم مجموعة من قطاع الطرق يشنون هجمات وحشية عنيفة علي السود من قبائل الفور والمساليت والزغاوة، لكنهم نعموا بتواطؤ تام من الجيش السوداني. وفي كل لحظة كان البشير يرفض نشر قوات حفظ سلام في المنطقة.. الحوادث موثقة جيدًا ويمكنك قراءتها بالتفصيل - لو كانت أعصابك تتحمل ذلك - في موقع «هيومان رايتس ووتش».. السيناريو نفسه يتكرر في كل مرة ويصل الجنجاويد مع رجال الجيش وبمركباته أحيانًا، وهم يلبسون الثياب نفسها تقريبًا، وتتم المذابح وحرق البيوت ويتم الاغتصاب، بينما تحلق المروحيات تراقب المشهد .
يري أصحاب نظرية المؤامرة وتواطؤ المحكمة الدولية أن السودان يؤكد مصرع 35 ألف قتيل في دارفور اعترف بهم أوكامبو كذلك، بينما يتحدث الإعلام الغربي عن 300 ألف قتيل.. هذا التضارب ينسف القصة من جذورها في رأيهم.. وهل رقم 35 ألفًا رقم هين يجب تجاهله؟. هؤلاء من شعبك يا أخي وليسوا من الصهاينة..
رأيت البشير وسط المظاهرات الشعبية المؤيدة والهتافات الرافضة لطلب اعتقاله، وهو يلوح بالعصا كعادته بتلك الطريقة الأبوية القبلية كأنه عمدة يتفقد أنفار العزبة، وسألت نفسي: هذه المظاهرات قام رجاله بتنظيمها.. فكم سيبقي من هؤلاء لو وقعت الواقعة وقبض عليه فعلاً؟. أذكر صدام حسين - لو كان هو فعلاً - وهو يمشي في حي المنصورية قبل سقوط بغداد بيومين، وكيف راح العراقيون يهتفون له ويلثمون يديه، ثم راح العراقيون أنفسهم ينهالون بالأحذية علي تمثاله بعد ذلك بيومين.. كل هذا كلام في كلام فلا يبقي إلا الحاكم الذي أحبه شعبه فعلاً. إن البشير غير مبال وثابت الجنان كما نراه، لكنه بالتأكيد يموت ذعرًا وتوترًا ولا يثق بأحد ممن حوله.. تطارده رؤي الطائرات الأمريكية التي تحيط بطائرته الرئاسية لتأمرها بالتوجه إلي هذه القاعدة الأمريكية أو تلك.
نعم.. نحن نعرف أن الولايات المتحدة هنالك خلف الكواليس تفرك يديها في شغف ونهم بانتظار الظفر بهذه الثمرة الناضجة المكتنزة بالنفط واليورانيوم ومياه النيل، لدرجة أنها أعلنت أن أفريقيا منطقة مصالح أمريكية وكونت قيادة لها بالجيش الأمريكي اسمها «أفريكيوم». بالطريقة نفسها فركت كفيها وسال لعابها وهي تري «صدام حسين» يعبر الحدود إلي الكويت بمدرعاته. نعرف يقينًا أن أصابعها في كل شيء، لكن من أعطاها الفرصة أولاً؟. كيف كانت الولايات المتحدة ستتدخل لو لم يغزُ صدام الكويت ولو لم يتورط البشير في مذابح دارفور؟..
نعم.. لم يتكلم أحد عن إسرائيل وراوغ أوكامبو كل من طالب بمعاملة مماثلة لسفاحي غزة. العالم يتعامل بمكيالين، لكن لو كان هناك قاتل في شارعك وقاتل في الشارع المجاور لا تقدر علي القبض عليه، فهل يعني هذا أن عليك ترك قاتل شارعك وشأنه طلبًا للعدالة؟.. لا أتمني أبدًا أن يقبض علي البشير أو أراه يُحاكم لأن في هذا إهانة لا شك فيها لي كعربي، لكني أري أنه يستحق قرار الإيقاف فعلاً. سوف يفكر أي حاكم عربي طويلاً قبل أن يلعب هذه الألعاب الخطرة التي تحرق أنامله.
إن السودان مهدد ومستهدف، وخطر التقسيم ماثل للعيان ككابوس في الأفق، لكن من سمح بهذا أولاً؟.. من صنع هذه الثغرات لينفذ منها أعداؤنا؟.. هذا ما فعله صدام حسين في العراق حرفيًا ويفعله البشير اليوم.. هؤلاء قوم مسخرون لتحقيق مصالح أمريكا وتضييع ما في يدنا من كنوز وثروات. ولا أعتقد أن البشير يبالي كثيرًا بتفكك السودان أو تقسيمه إذا كان هذا سيعطيه يومًا آخر في الحكم. علينا أن نعرف هذه الحقيقة إلي أن نفرز من يبحث عن مصالحنا بذات النهم والجشع الذي تفتش به الولايات المتحدة عن مصالحها في المنطقة.
|
|
|
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق