امتلك "عادل إمام" قدرا من الجرأة أن يراهن هذه المرة ولو قليلاً على الممثل بداخله.. هذا الممثل الكامن الذي كثيراً ما خنقه "عادل" ومنعه من التنفس لأنه يخشى المغامرة، ورغم ذلك فإن جرأة "عادل" جاءت مع الأسف منقوصة لأنه بخبرته في الحياة الفنية -التي تقترب من نصف قرن- لا أدري لماذا لم يشعر أن كاتب السيناريو "نادر صلاح الدين" باع له الترام لأنه يلعب درامياً في فيلمه "زهايمر" بالشخصيات، وكأنها مباراة عشرة طاولة يرمي بالزهر ولا يدري أين تتجه "القواشيط".
نعم لو عقدت مقارنة مثلاً مع آخر أفلامه "بوبوس" ستكتشف أن "عادل" هذه المرة يقدم شخصية درامية بعيداً عن تلك الركلات التي ينهال بها على مؤخرة النساء في كل أفلامه، وأيضاً الصفعات التي لا يسلم منها خدود كل من يشاركه التمثيل من الرجال.
نعم كان هناك ركلة أو اثنتان وصفعة أو اثنتان في "زهايمر"، ولكن الأمر لم يتجاوز هذه المرة حدود الضربات الخاطفة ليس أكثر!!.
والله زمان يا "عادل".. لأول مرة منذ زمن بعيد أستمع إلى استحسان عدد من الجمهور بعد نهاية عرض الفيلم.. هذا هو ما حدث بعد أن قرأ الناس تترات النهاية.. لا شك يحمل الناس تقديرا لنجم الفيلم، برغم أنه ضل طريقه إليهم في أفلامه الأخيرة وخاصة آخرهم "بوبوس" الذي وصل فيه النجم إلى ذروة الاستخفاف بحقوق الجمهور عليه، فهو يقدم لهم البضاعة نفسها، حيث إننا أصبحنا نشاهد نجم الكوميديا يقدم إيفيهاته التي يحفظها الجمهور أكثر منه.
من الواضح أن "عادل" يملك القدرة على أن يراجع نفسه وينظر للمرآة على الأقل بينه وبين نفسه، ولهذا بقدر ما دافع علناً في أغلب أحاديثه عن أسوأ أفلامه "بوبوس" وأوعز إلى "يسرا" التي شاركته البطولة بأن تواصل الدفاع عن الفيلم بالباطل فهي تعتقد -ولا أدري لماذا- أن الفنان من الممكن أن يخدع نفسه ويخدع الناس طوال الوقت، بينما من الواضح أن "عادل" كان بداخله مدركاً أنه قدم لجمهوره فيلماً رديئاً وأن الإخفاق التجاري عقاباً يستحقه، الأهم من ذلك أنه أدرك بأن عليه تغيير البوصلة؟!
في "زهايمر" كان "عادل إمام" حريصاً على أن يتعاطف مع مريض الزهايمر.. رغم أنه درامياً ليس مريضاً، ربما "ليس مريضاً" هذه هي أسوأ ما في هذا السيناريو وكأنه يخشى أن يراهن تماماً على فكرة التغيير.
"عادل" بالفعل تغير لأنه استند هذه المرة إلى تقديم الشخصية الدرامية، بينما أضعف ما في تلك الحبكة أنه أحالها إلى مجرد خدعة من أقرب الناس إليه، وهما ابناه، مؤامرة اشترك فيها أفراد عديدون تم تأجيرهم ضمن أحداث الفيلم، وبعضهم كان بينهم وبينه صداقة قديمة مثل "أحمد راتب" زميله القديم الذي يتآمر عليه مقابل الحصول على الثمن، وحارس الفيلا "ضياء الميرغني" الذي تربطه مع "عادل" عشرة وليس مجرد عامل لديه ولكنه بكل بساطةٍ يبيعه.
بالطبع لا يمكن تصور أن الكل يوافق على الاشتراك في هذه الخديعة ولا أحد يقول لا ويدخل السيناريو إلى منطقة أخرى وهي المقالب التي يحيكها "عادل" ضد ابنيه "فتحي عبد الوهاب" و"أحمد رزق" وزوجة ابنه "أحمد رزق" التي أدت دورها "رانيا يوسف".
وهكذا شاهدنا عدداً منها، مثل مباراة الملاكمة التي ينهال فيها بالضرب على الجميع أو الذهاب لاصطياد البط، ثم تأتي الجريمة الكبرى عندما يضعهم في اختبار اتجار الكوكايين نكتشف أنهم يوافقون على استكمال اللعبة لمجرد أن هذا الموقف لصالحهم، وتأتي النهاية ليتضح لعادل إمام أن الحفيدة فقط هي المخلصة له، وسوف يربِّيها في العزبة بعيداً عن فساد أبيها وأمها.
ولا ينسى الفيلم أن يذكرنا بعبد الفتاح القصري في فيلم "ابن حميدو" عندما ينهال بصفعة قوية على وجه زوجته "سعاد أحمد" أعادها مرة أخرى "رزق" مع "رانيا" على أساس أن كلمته كانت دائماً تنزل الأرض، لكنها في المشهد الأخير لم تنزل ولا أدري لماذا لم ينتبه "رزق" إلى أنه يؤدي دورا يتوافق تماماً مع الشخصية التي لعبها مؤخراً في مسلسل "العار"؟!.
السيناريو لم يخلص تماماً للفكرة؛ بل كان يحرص على خيانتها، ربما لأنه كان يخشى من تلك الجدية التي لم يألفها الجمهور مع "عادل"، رغم أن الجدية لا تعني التجهم، ولا تعني أيضاً الافتقار إلى خفة الظل، أو ربما كانت هذه هي نصيحة "عادل" للكاتب بأن يحدث هذا التحول لنصبح أمام انقلاب درامي يلعب فيه على قانون المفارقة الدرامية؛ حيث إن الجمهور يعلم بأن "عادل" اكتشف الخدعة التي دبرها له ابناه بينما الأبطال لا يعلمون.
مريض الزهايمر هذه الشخصية قدمها قبل نحو عام "عمر الشريف" في فيلم فرنسي استمتعت به وهو "نسيت أن أقول لك" كان بالفيلم الفرنسي مسحة شجن نبيل، وهو نفس ما طرحته بدايات فيلم "زهايمر"، لا أدري لماذا ترك "عادل" السيناريو يجري بعيداً عن تلك التيمة الدافئة.
الرهان على أن الجمهور لا يرضى من نجومه سوى ما ألفوه منهم أراه ليس دائماً على صواب؛ لأن من حق النجم الجماهيري أن يغامر أيضاً بأفكاره، وجاذبيته هي التي تضمن أن يأتي إليه الجمهور.
نقطة الانطلاق في المشهد الأول يذكرنا بفيلم "الليلة الأخيرة" لكمال الشيخ، ليس معنى ذلك اقتباساً، ولكن يظل بداية تتسع لأكثر من معالجة، كان "الشيخ" يلعب في مساحة زمنية قدرها 15 عاماً، عندما قرر "محمود مرسي" أن تصبح "فاتن حمامة" هي زوجته بدلاً من شقيقتها التي رحلت، ثم أصيبت "فاتن" بفقدان الذاكرة، وتبدأ الأحداث في اللحظة التي استردت فيها ذاكرتها.
المخرج "عمرو عرفة" يقدم ذلك في ثلاثة أيام غاب فيها "عادل" عن الوعي تماماً بفعل مخدر قوي، ثم يصحو لا يعرف شيئا، وكان على السيناريست أن يفكر كثيراً قبل اللجوء إلى تلك الحيلة، ولكن الكاتب لا يجهد نفسه، إنه يختار الحل الدرامي مهما كانت المحاذير طالما أنه يدعم فكرته.
شيء من البرودة في المكان تستطيع أن تستشعره من خلال الرؤية الإخراجية لعمرو عرفة مع إضاءة "محسن أحمد" وديكور "صلاح مرعي" التي تتوافق مع المعنى الدرامي الذي يريد توصيله.
حالة من الضبابية في المشاعر بين الممرضة "نيللي كريم" و"عادل إمام" تشعر أن الشاشة بالفعل تعبِّر عنه، وذلك قبل أن نكتشف أن الكل يلعب بنفس المفردات من أجل خداع عادل إمام، تؤدي دور خادمة المنزل "إيمان السيد" التي تواصل اللعبة بعد أن تلتقط الكرة من "نيللي كريم" لتكمل تمثيلية الخداع.. حتى حارس المنزل "ضياء الميرغني" وماسح الأحذية والجنايني.. الكل يشارك في هذه المسرحية.
إن الأمر في هذه الحالة يحتاج إلى مجموعة منتقاة من الممثلين المحترفين وليس مجرد أشخاص يؤدون هذه الشخصية، وذلك حتى نصدق أن هؤلاء تم استخدامهم لأداء هذه الأدوار، كيف أصبح الجميع فجأة ممثلين؛ الجنايني يمثل إنه جنايني، وماسح الأحذية يمثل أنه ماسح أحذية، ثم بعد ذلك يريدنا السيناريو أن نتعاطف معهم، ويصبح المؤشر هو علاقتهم بعادل إمام، انحيازهم له في معركته ضد أبنائه هو العربون الذي من أجله نغفر لهم خيانتهم، برغم أنهم خانوا "عادل" ثم خانوا الذين خانوا "عادل إمام"، أي أنهم خونة محترفون يلعبون لصالح من يدفع أكثر.
الحبكة الدرامية التي تراهن على الشائع كما نسجها "نادر صلاح الدين"، وهكذا يضع أبطاله دائماً في مواقف متعددة من أجل الإضحاك.. وهو ما يفقد الفيلم الإحساس بالألق الفني الذي صاحب بداياته.. الخط الوحيد الذي ارتبط بهذا الألق هو مريض الزهايمر "عادل إمام".
ويبقى مشهد أظنه لا يُنسى في تاريخ الدراما السينمائية هو الذي جمع بين "عادل إمام" و"سعيد صالح" في بيت المسنين، عندما ذهب "عادل" إلى صديقه القديم "سعيد صالح" بحضور كبيرة الممرضات "إسعاد يونس"، لو قدم "سعيد صالح" هذا المشهد فقط طوال تاريخه لكفاه أن يضعه في مكانة كبار الممثلين في عالمنا العربي.
بعد هذا المشهد نرى المخرج "عمرو عرفة" وهو يقدم لنا "عادل إمام" داخل منزله والكاميرا تتطلع إليه من أعلى، وكأنه دون جملة حوار واحدة ينتظر نفس مصير صديق الزمن الجميل.. لا تشعر بأن هناك شخصيات درامية أخرى بجوار "عادل"، حيث إن هناك خفوتا في الحضور اللقطات الأولى داخل الفيلا في الفيلم نفذها "عمرو عرفة" بطريقة أقرب إلى روح المسرح.
الحبكة الدرامية تظل تشكل مأزقا للفيلم، إنسان في السبعين من عمره -كما يقدمه الفيلم- يأخذ جرعة مخدر تجعله ينام ثلاثة أيام، من المؤكد رغم الخطورة والمجازفة عندما يصحو سوف يكتشف أنه قد فعل لا شعورياً مثل البشر وتبول وتبرز، ثم إنها مخاطرة جنائية لمن يقدم عليها لأنها تحمل خطورة التهديد بالموت، ولا يمكن أن يختار الكاتب أي حل درامي لمجرد أن هذا هو الأسهل.
ويبقى أن الفيلم صار دوراً لممثل أكثر من كونه بناءً فنياً "عادل" بدلاً من أن يؤدي دور مريض الزهايمر مثل أنه لا يهتم بنظافته الشخصية، يمثل دور مريض الزهايمر والذي تشير المراجع العلمية أنه يحمل عدوانية تجاه أقرب الناس إليه، وهو ما تحقق في الفيلم؛ فهو رث الثياب لا يعتني بنظافته الشخصية ولا ملابسه، عنيف في انتقامه من أبنائه.
نجح "عادل" في الإمساك بهذا الخيط الرفيع، وهو تمثيل التمثيل كان من فرط التصاقه بالشخصية يؤديها بقدر من التعاطف.. نعم لي ملاحظات عديدة على التجربة ولكنها تحمل ولا شك إضافة لعادل إمام، وهو أنه هذه المرة الممثل بعد غياب طويل.. ثم تستطيع أن ترى أمامك مخرجا يوجه ممثلا وليس ممثلاً يوجه مخرجا، كذلك مخرجا يعنيه التكوين الدرامي للقطة وليس مجرد تنفيذ اللقطة، لكنه يتحمل بالتأكيد حالة الاستخفاف بعقول المشاهدين التي كان عليها السيناريو مثل زواجه من الممرضة والشغالة لإغاظة أبنائه.
لم يبق في الذاكرة من الممثلين بجوار "عادل" أحدٌ؛ لأن الحقيقة أن السيناريو قدم فقط عددا من الأدوار ذات البُعد الواحد، هذا ولد شرير بالسليقة يؤدي دوره "فتحي عبد الوهاب"، وذاك ولد ضعيف الشخصية بالسليقة أحمد رزق"، وتلك زوجة متسلطة –خلقة ربنا- "رانيا يوسف" تكفي نظرة منها لكي ترتعد فرائص "رزق".
صورة الأم الراحلة تطل علينا من المنزل، ولا ندري متى رحلت وما هي علاقتها بالزوج وعلاقتها بالأبناء، وما سر هذا الجفاء بين الأب وأبنائه.. جذوره وأسبابه، لا شيء من هذه المعلومات يقدمها لنا السيناريو، ثم الممرضة الفقيرة الطيبة "نيللي كريم" كيف يعتبرها طيبة وهي تشارك في هذه الكذبة الكبرى.. الأب يعيد تربية أبناءه بالضرب وكأنه ينزل بهم عقابا ماديا فهل هذه هي التربية التي يدعو لها الفيلم أم أن المقصود هو أن يسامحهم المتفرج.
ورغم كل هذا القصور في السيناريو تظل خطوة كنت أتمنى أن يملك "عادل" القدرة الكامنة على التغيير، لكنه اختار نصف ثورة ونصف تمرد ونصف جرأة!!.
(*) ناقد مصري، والمقال يعبر عن وجهة نظره
0 التعليقات:
إرسال تعليق