يسري فودة : يجب محاكمة السباعي بتهمة الغباء السياسي

.. بتهمة الغباء السياسى بقلم : يسري فودة

طول الطريق، بعد انتهاء لقائى بالسباعى أحمد السباعى، المسؤول الأول عن تقارير الطب الشرعى فى مصر، وجملة عبقرية للرئيس الراحل أنور السادات تسيطر على عقلى. كان رئيس مصر، فى سعيه لتثبيت حكمه فى مراحله الأولى فى مثل هذه الأيام من عام 1971، يستعد للتعامل مع من سماهم مراكز القوى بتهمة التآمر عليه عن طريق التنصت على محادثاته الهاتفية، لكنهم بعد ذلك لجأوا إلى ما كانوا يظنون أنها ستكون ضربة قاضية فقدموا استقالة جماعية، فما كان منه سوى أن قبلها ببساطة وأطلق جملته العبقرية: «دول لازم يتحاكموا بتهمة الغباء السياسى».

يسري فودة

شىء من هذا القبيل، بمعنى من المعانى، حدث ليلة الأربعاء الماضى بوصولنا فى نهاية مواجهة تليفزيونية مع السباعى، امتدت أكثر من ساعتين ونصف الساعة، إلى بيت القصيد عندما تحدث بافتخار عن كيفية وصوله لمنصبه: «كنا بنيجى بالأقدمية.. أول واحد جه بالاختيار هو أنا»... بالاختيار من جانب من؟...

«جهات كتيرة»... هل من هذه الجهات جهاز أمن الدولة؟... «ممكن يكون أمن الدولة.. مش معنى إن أمن الدولة هو اللى جابنى يبقى أمن الدولة له فضل علىّ، لأ».

فى الليلة نفسها بادر الدكتور أيمن نور بالاتصال بالبرنامج للرد على بعض مزاعم السباعى بحقه، لكن هذا رفض أن يمنحه فرصة للرد، وهو أيضاً فى حد ذاته تصرف كان يمكن للسادات أن يحاكمه عليه بتهمة الغباء السياسى. وفى الليلة التالية كان من واجبى أن أمنح نور الفرصة كاملة للرد فأكد أنه أثناء وجوده فى سجن طرة استطاع تسريب صور فوتوغرافية لإصابات فى ظهره، وأن ضابطاً من جهاز أمن الدولة استجوبه فى هذا الأمر فرد عليه بذكاء: «والله الشخص الوحيد الذى صورنى هو الشخص الذى وقّع الكشف الطبى علىّ، وهو السباعى»، وعندئذ قال له الضابط: «لاااااا، السباعى ده بتاعنا، السباعى ما يسربش».

سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن نستطيع تنظيف هذا الوطن، فما ورثناه من فساد يمتد عقوداً طويلة إلى الوراء. فى أثناء ذلك سيستميت كل من له مصلحة فى البقاء سواء لغرض إطالة أمد الانتفاع أو لدرء تبعات السقوط أو لكليهما معاً وسيجد من يسانده، ولكن فقط إلى حين. فمثلما يوجد فى العلوم الإمبيريقية شىء اسمه نقطة الحسم Critical Point يوجد الشىء نفسه فى العلوم الاجتماعية، ومنها علم السياسة. الأمر، للتبسيط، أشبه بسفينة على وشك الغرق، سيكون كل واحد من ركابها على استعداد لمساعدة الآخر إلى أن تأتى لحظة يزداد فيها ضغط الظروف المحيطة ويكون عليه أن يختار بين أن ينقذ نفسه أو أن ينقذ الذى إلى جواره. منتهى المثل على هذه القاعدة هو يوم الحشر، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.

الثوار الحقيقيون يفهمون هذه القاعدة بالفطرة فتراهم يضغطون ثم يضغطون فى الطريق إلى نقطة الحسم. هى فى الواقع نقاط للحسم كثيرة متباينة، بعضها فى ضخامة نقطة الحسم التى لديها وصلت القوات المسلحة المصرية نيابة عن الوطن يوم 11 فبراير إلى قرار إما نحن أو حسنى مبارك. وبعضها يبدو صغيراً كنقطة الحسم تلك التى لم تستغرق من رئيس نيابة جنوب القاهرة أكثر من 30 ثانية عندما نزل إلى العمل فى يوم جمعة كى «يصرف» موظفاً صغيراً فى مصلحة الطب الشرعى كان قد أجبره على قضاء ليلته السابقة فى الحبس ظلماً وعدواناً بعد أن افترى عليه رئيسه السباعى.

نقطة الحسم فى هذا المثال لا تقل أهمية على الإطلاق عن نقطة الحسم فى المثال الأول. هى أكبر خابور حتى الآن فى نعش السباعى لكن أهميتها تتعدى هذا الشخص بكثير. هى فى الواقع سابقة حاسمة تمثل أولى خطواتنا نحو ثورة حقيقية على الفساد الإدارى.

نعلم نحن أن الذين وقفوا وراء السباعى، كانوا يريدون إرهاب الشرفاء كلهم نحو السكوت على الفساد أينما كان. ويعلمون هم أن الذين وقفوا إلى جانب الموظف الصغير الشريف الشجاع، رغم أنهم لا تجمعهم به مصلحة، كانوا يريدون مقاومة الظلم لكنهم أيضاً كانوا يريدون تشجيع الشرفاء كلهم على فضح الفساد أينما كان. ويعلم الجميع أى فريق ينطلق فيما يريده من مصلحة الوطن لا من المصالح الشخصية، مثلما يعلمون جميعاً بأى فريق ستفتخر مصر.

بسبب السباعى، صاحب «لفافة بانجو» الشهيد خالد سعيد وصاحب «ارتجاف أذين» السيد حسنى مبارك وصاحب الكثير من «هبوط حاد فى الدورة الدموية»، استدعت نيابة جنوب القاهرة المواطن فريد حشيش صباح الخميس الماضى. سأله رئيسها فى البداية: «إنت عارف إنت جاى هنا ليه؟» بعد قليل سيكتشف الرجل الذى يعمل محققاً فى مصلحة الطب الشرعى أن رئيسه فى العمل، السباعى، قدم بلاغاً إلى النيابة بحقه وأن رئيس النيابة (س.) يحقق الآن معه رسمياً رغم أنه قال له فى البداية: «كلمتين وهتروّح»، وهو ما دعاه إلى التنازل عن حقه فى طلب حضور محاميه.

تمحور التحقيق، وفقاً لفريد حشيش، حول ما رآه تقصيراً وإهمالاً فى تقارير المصلحة بشأن جثث شهداء الثورة، وكان من الشجاعة بحيث عبر عنه فى العلن مدعوماً بالوثائق والشهود. لكنه بعد حوالى ساعتين من التحقيق وجهت إليه تهمتان: أولاً، التشهير بالسباعى أحمد السباعى بصفته موظفاً عاماً، وثانياً، إثارة الفوضى والبلبلة وتأليب الرأى العام. وقع على أقواله وامتثل لأمر الانتظار فى الاستراحة تحت الحراسة التى جردته من هاتفيه المحمولين.

بعد قليل جاءه اثنان يرتديان ملابس مدنية: «تعالى معانا 5 دقايق كده مشوار صغير وبعدين هتروّح». امتثل للأمر فقاداه مشياً على الأقدام خارج المبنى فى الشارع لمسافة حوالى 300 متر حيث تقع نقطة شرطة السيدة زينب، وهى نقطة تقوم الآن مقام قسم الشرطة الذى كان قد احترق أثناء الثورة. عندما سلماه فى النقطة سلم أحدهما أيضاً ورقة لنائب المأمور اكتشف أن مفادها «حجز المتهم للعرض على النيابة صباح باكر 29/4». سأل فريد نائب المأمور الذى يحمل على كتفيه رتبة مقدم شرطة: «ليه؟ أنا عملت إيه؟» رد عليه: «أنا مالى؟ إنت عايز تودينى فى داهية؟»

نادى نائب المأمور على الملازم أول (ع.) كى يقوده إلى إحدى غرف الحجز. فعل هذا بخشونة. أثناءها التمس فريد أن يستخدم الهاتف ولو مرة، خاصة أنه لم يكن يعلم أنه لن يعود إلى المنزل، لكنهم رفضوا التماسه. فى الممر لاحظ أن النقطة تحتوى على ثلاث غرف للحجز. دفعه الضابط الصغير داخل إحداها وأغلق الباب. واحد، اتنين، ثلاثة، أربعة، خمسة نزلاء فى هذه الغرفة، كل منهم يفترش إما مرتبة أو بطانية. أما هو فلم يكن من نصيبه سوى البلاط. ويا ليت الأمر توقف عند هذا.

بمجرد دخوله تسلمه اثنان منهم. أحدهما (أ.) أمسك به من الخلف، والثانى (ش.) صفعه على الوجه، ثم تناوبا ضربه من كل ناحية. صرخ فريد مستنجداً بالضابط. فتح هذا شراعة الباب. «بيضربونى، حد ينقذنى». أطل الضابط قائلاً: «أنا ما شفتش حاجة». فى مثل هذا الوقت قبلها بيوم واحد كان السباعى معى على الهواء يقول: «هتسمعوا عنه أخبار كويسة إن شاء الله» فى إشارة تهكمية صفراء إلى نيته التى أفصح لى عنها صراحة قبل الدخول إلى الاستوديو: «وحياتك هيتحبس ويتبهدل».

وبينما كنت أوجه ندائى إلى المشير محمد حسين طنطاوى والدكتور عصام شرف لدى نهاية لقائى بالدكتور أيمن نور والسيدة زهرة شقيقة خالد سعيد، والدكتور فخرى صالح كبير الأطباء الشرعيين سابقاً قرب الثانية صباحاً وأنا أقاوم رغبة شديدة فى التقيؤ، كان ذلك الضابط نفسه يدخل إلى غرفة الحجز كى يعطى هذين النزيلين (أ.) و(ش.) هدية معتبرة. يكتشف فريد بعد قليل أنها ليست سوى حشيش أخذا يدخنانه وينفثان دخانه فى وجهه وهما يكيلان له السباب والتحرش الجسدى. من حين إلى آخر كان أحد النزلاء الآخرين يحاول الدفاع عنه بالكلام لكن شيئاً لم يكن ليردعهما كما هو واضح.

استمر هذا الفاصل حتى الخامسة صباحاً عندما كبس الحشيش على أنفاسهما فغلبهما النعاس. على عكس ذلك، لم يكن النوم ليقترب من عينى فريد وهو جالس القرفصاء على بلاط غرفة الحجز بينما يتخيل رئيسه يغط الآن فى نوم عميق على فراش وثير فى منزله.

وفى العاشرة والنصف من صباح الجمعة، بينما بدأت وفود من شرفاء المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان تصل إلى مقر نيابة جنوب القاهرة، وبينما كنت أنا أقوم بما تيسر لى من اتصالات كان أحدها بواحد من أبرز أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، صدر الأمر لفريد فوضعوا يديه فى الكلابشات تمهيداً للتوجه إلى مقر النيابة. قبل مغادرته يتذكر فريد ضابط الاستيفاء الذى كان، على حد قوله، فى غاية الاحترام والأدب إلى حد أنه اعتذر له بشدة عن أن الإجراءات تملى عليه استخدام القيود أثناء الترحيل. بل إنه عرض عليه إن كان يريد طعاماً أو سجائر.

حملته سيارة الترحيلات تلك المسافة القصيرة إلى مقر النيابة. حين وصل إلى هناك استبشر خيراً بوجود الأهل والأصدقاء والمحامين والمتعاطفين. لكنه عندما دخل إلى مكتب رئيس النيابة (س.) لاحظ أيضاً، وجود رئيس النيابة الكلية. لم يستمر هذا المشهد سوى حوالى 30 ثانية قال أثناءها محاميه لهما: «متشكرين على قرار النيابة». أما القرار فهو: «يُصرف السيد فريد حشيش من سراى النيابة بضمان محل إقامته». هكذا. فقط. لا غير. لم يوجه إليه أى أحد أى سؤال ولا كلمة. خالص.

فى أثناء هذا الفيلم كله كان رئيس الوزراء، الدكتور عصام شرف، مشغولاً خارج البلاد فى جولة خليجية ولم تتسن له متابعة الموقف. لكنه فور عودته طلب منى نسخة من الحلقات الثلاث التى عالجت الموضوع. فعلنا ذلك. وفى هذه الأثناء اتصل بى العضو البارز فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة كى يزف لى الخبر بعد اتصاله قبل ذلك بالنائب العام، المستشار عبدالمجيد محمود، فقدمت له شكراً مستحقاً باسم أسرة فريد حشيش، وباسم الشرفاء فى هذا البلد.

لكن القصة لم تنته بعد. ستبدأ القصة الحقيقية فى النهاية عندما يستدعى السباعى أحمد السباعى إلى تحقيق جاد فيما نسب إليه من اتهامات ووقائع خطيرة، ليس فقط من جانب فريد حشيش، بل من أطراف يصعب حصرها سواء داخل المؤسسة التى يرأسها أو خارجها. لقد صار هذا الشخص الآن بما لا يدع مجالاً للشك مسؤولاً عن تشويه صورة مصلحة الطب الشرعى فى عيون الناس. وحين تتحدث عن مصلحة من هذا النوع فى علاقتها بالمواطن فإنك تتحدث عن علاقة لا تنبنى إلا على أساس الثقة العمياء. ومما لا شك فيه للأسف أن شرخاً غائراً أصاب هذه العلاقة.

هذا الشرخ الغائر فى هذا الظرف التاريخى الذى تمر به بلادنا يضيف عبئاً كبيراً على كاهل الحكومة المصرية، بل وعلى كاهل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقد انفجرت مواقع التواصل الاجتماعى على الإنترنت بغضب جام على ذلك الشخص، وخرج المئات إلى شوارع الإسكندرية للمطالبة بمحاكمته وقفز هو فجأة إلى مرتبة متقدمة لم يكن ليحلم بها على لائحة أولويات مطالب الثورة إلى حد أن كثيرين يطالبون بتنظيم تظاهرة مليونية خصيصاً له. هذا الشرخ الغائر فى هذا الظرف التاريخى الذى تمر به بلادنا كنا جميعاً فى غنى عنه.

لن تستقيم الأمور فى هذا الموضوع إلا بإعفاء السيد السباعى أحمد السباعى فوراً من مهام عمله إلى حين الانتهاء من التحقيق معه، ولن يكتمل الإصلاح إلا باستقلال مصلحة الطب الشرعى عن السلطة التنفيذية إدارياً ومالياً ومهنياً وعلى كل مستوى، حتى لا تتهم المصلحة مرة أخرى فى علاقتها بالمواطن بأنها خصم وحكم فى الوقت نفسه.

لم يكن ليصح بأى حال من الأحوال أن يبيت موظف شريف شجاع ليلته محبوساً. ولم يكن ليصح أن يسكت مواطن شريف عن مسألة كهذه. ولم يكن ليصح ألا يتحرك ولاة أمورنا إلا بإيعاز من ضمائرهم ومن نبض الشارع. لقد تحول المواطن فريد حشيش المغلوب على أمره إلى بطل بين ليلة وضحاها... شكراً للسباعى على ذلك. لكن الأهم من ذلك أنه فى هذه اللحظات بعينها يتحول أيضاً إلى معادل موضوعى لكل المصريين الشرفاء.

انطلاقاً من هذا، فإن الصفعة التى تلقاها فريد حشيش على وجهه فى محبسه صفعة على وجه كل مصرى شريف يسأل عنها أولاً السباعى أحمد السباعى. نحن نعلم أن الدكتور عصام شرف، الذى وصل إلى رئاسة مجلس الوزراء على أسنة الثورة محمولاً على أعناق الشرفاء، لا يرضيه أن يتلقى أحدهم صفعة على وجهه. أعد لنا حقنا وكرامتنا يا دكتور.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
//