وماذا عن الفساد السياسي ؟ يكتبها‏: فاروق جويدة


فاروق جويدةمن الخطأ الجسيم أن تتوقف ملفات الجرائم في عهد النظام السابق ورموزه علي خمس فيلات أو صفقات من الغاز أو اللوحات المعدنية ونتجاهل أو نتناسي بيع أصول الدولة المصرية وتوزيع 
الأراضي وأرقام الديون وحقوق المواطنين الضائعة في التأمينات.. وكما قلت في الأسبوع الماضي في هذا المكان فإن جرائم نهب المال العام تضم ملفات كثيرة لن تسقط بالتقادم تحت أي ظرف من الظروف وسوف تطارد أصحابها في قبورهم.

هناك مسلسل آخر في جرائم الفساد ترك آثاره علي حياة المصريين سنوات طويلة وسوف تبقي آثار هذا الملف تطاردنا جيلا بعد جيل.. إن الفساد السياسي كان من أخطر وأسوأ جرائم النظام السابق خاصة أنه حرم الإنسان المصري من أبسط حقوقه في الحرية وفي انتخابات نزيهة وتداول مشروع للسلطة وواقع اجتماعي يوفر له قدرا من العدالة وتكافؤ الفرص.. نحن أمام نظام سياسي أهدر الكثير من قيم هذا المجتمع وثوابته وتجاربه السابقة مع الحريات.. وما أكثر الشواهد علي ذلك..
< إذا فتحنا ملف الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو انتخابات الشوري والمحليات سوف نجد تاريخا طويلا من الإصرار علي التحايل والتزوير وإهدار حق الشعب في اختيار من يمثلونه.. وكانت انتخابات مجلس الشعب مع نهاية عام2010 وقبل قيام الثورة بشهور قليلة تمثل النموذج الصارخ لتزييف إرادة85 مليون مصري وقد جاء آخر برلمان في تاريخ هذا النظام ليكون أكبر وثيقة إدانة لهذا العصر الكئيب حين اكتسح الحزب الحاكم جميع الدوائر الانتخابية ولم يترك فرصة للفوز لأي حزب معارض أو جماعة محظورة وأسقط من قوائم المصريين الأقباط ونصف المجتمع ممثلا في المرأة واستباح إرادة هذا الشعب بصورة كانت غاية في الاستبداد والتعسف وانتهاك إرادة الشعوب..
< إذا توقفنا أمام ملفات القوانين سيئة السمعة التي أصدرتها المجالس النيابية طوال ثلاثين عاما سوف نجد مئات القوانين المضروبة التي صاغتها ببراعة وانتهازية فلول ترزية القوانين التي أفسدت كل قيم العدالة والمساواة وامتهنت قدسية القضاء وشرعيته.. في سجلات مجلس الشعب والشوري في أرض الكنانة قوانين كثيرة تصلح لأن تكون دروسا في الاستبداد وفي ملفات ترزية القوانين شخصيات تثير الأسي والإشفاق والاشمئزاز حين يسقط البعض قيمة العدل والعدالة طمعا في منصب أو حرصا علي مكاسب.. إن سجلات القوانين المصرية سيئة السمعة تستحق أن تكون مجالا للدراسة في أساليب التحايل والقفز علي السلطة والإصرار علي البقاء فيها ابتداء بقوانين الطواريء وانتهاء بما حدث في قوانين الاحتكار والضريبة العقارية..
من ملفات الفساد السياسي في العهد البائد أيضا تجارب إنشاء الأحزاب الكرتونية ووسائل تكوينها وإجراءات إنشائها بحيث أصبح الحزب الحاكم هو صاحب القرار في إنشاء هذه الأحزاب وتقديم الدعم المالي لها حسب ما يري الجهابذة في دوائر الحكم..
مازالت مسلسلات إنشاء وإغلاق هذه الأحزاب تثير الأسي ابتداء بحزب الشعب ورئيسه الراحل الكبير إبراهيم شكري وانتهاء بأكبر حزب سياسي منافس كان يسمي المحظورة كناية عن جماعة الاخوان المسلمون.. كانت لعبة الأحزاب السياسية في مصر واحدة من ألاعيب النظام السابق وأساليبه في التحايل وتأكيد السلطة الغاشمة في إهدار حرية المواطنين.. وفي ظل التجربة الحزبية المزيفة التي صاغها النظام السابق وحافظ عليها بقوة الأمن ومواكب البلطجية أضاعت علي المصريين فرصا كثيرة في الحرية والديمقراطية والعدالة.. واستطاع كهنة الحزب الوطني أن يغلقوا كل النوافذ أمام أي هواء نقي يمكن أن يتسلل إلي هذه الأرض الطيبة..
< من سجلات الفساد السياسي أيضا بقاء المسئولين في مناصبهم عشرات السنين وتحولت مصر إلي مستنقع سياسي يضم مئات الوجوه التي شاخت وترهلت وأضاعت كل فرص التقدم علي الشعب بأكمله.. وتهاوت أجيال كثيرة أمام هذا المستنقع الرهيب الذي رفض أن يفتح الباب أمام أية محاولة للتغيير.. وهنا تم تهميش أجيال كاملة في مواقع العمل المختلفة وتجمدت فرص التقدم أمام الإصرار علي البقاء وزاد عدد الضحايا وحرم النظام المترهل شباب مصر من أي فرص للانطلاق.. وهنا تكدست الأجيال خلف بعضها أمام حالة من الإصرار المريض علي البقاء في السلطة.. ولم ينج أحد من هذه الكارثة وبقي وطن كامل ثلاثين عاما لم يغير وجها ولم يمنح فرصة وتحول إلي برك ومستنقعات تعبث فيه الطحالب والحشرات..
< ومع الإصرار علي البقاء في السلطة والرفض القاطع لكل أشكال التطوير والتغيير جاءت رغبة أخري أطاحت بكل شيء وهي عمليات توريث السلطة من أعلي قمة الهرم إلي مستويات أقل في كل مواقع العمل في مصر.. لم تكن قضية توريث الموقع الرئاسي هي الكارثة الوحيدة التي لحقت بنا ولكن سبقتها محاولات نجح الكثير منها في توريث مواقعه مثل القضاء والجامعات والطب والإعلام والفنون حتي وصلت إلي توريث كرة القدم.. كان البقاء في السلطة زمنا طويلا ثم الرغبة في توريثها للأبناء أكبر عقبة حالت بين المجتمع المصري وبين التقدم والمساواة في الفرص في كل مجالات الحياة.. ومنذ بدأت نظرية التوريث في الحكم توقفت كل أجهزة الدولة عند هذا المفترق ومعها توقفت كل أحلام المصريين أمام هذا السد المنيع الذي أسقط كل القيم والثوابت وجعل من هذا الوطن الكبير مجرد عزبة يديرها صاحبها وأبناؤه وعدد من أصحاب المصالح والمحيطين به.. إن توريث مصر لم يكن مشروعا فرديا لوراثة الحكم ولكنه تحول إلي مشروع جماعي لعدد من الأشخاص لوراثة وطن وهنا كانت نشأة عائلات في البيزنس بما في ذلك من أساليب التحايل وجمع الثروة وامتلاك الأصول.. كان مسلسل عائلات البيزنس جزءا من مسلسل آخر لم ينجح بسبب الثورة وهو توريث الحكم..
< من أخطر ملفات الفساد السياسي في عهد النظام السابق ما حدث في السجون والمعتقلات وما شهدته من جرائم ضد المصريين حتي أن أجهزة الأمن المصرية كانت تقدم خدمات دولية للراغبين في ممارسة هذا النوع من الخدمات ويمثل قمة الانحطاط الإنساني والسلوكي.. لا أحد يعرف عدد المساجين السياسيين في العهد البائد.. ولا أحد يعرف تفاصيل جرائم التعذيب في المعتقلات ولا أحد يعلم ماذا حدث للآلاف من المعتقلين السياسيين في سجون المحروسة خاصة جماعات الإخوان والسلفيين والمعارضين.. لقد تجاهلت سلطات الأمن في ظل النظام البائد أحكام القضاء والعدالة وفي ظل ما كان يسمي مواجهة الإرهاب مارست السلطات كل أنواع البطش والقمع.. إن جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم في كل دول العالم وفي مصر مسلسل طويل للقمع يجب أن نفتح ملفاته خاصة أن مصر وبعض الدول العربية تحولت في فترة من الفترات إلي مرجعية تاريخية وعملية في أساليب التعذيب والقمع استعانت بها دول كثيرة في وسائل التحقيق مع المتهمين وأساليب تعذيبهم..
< في منظومة الفساد السياسي أيضا كان الزواج الباطل بين السلطة وعدد من رجال الأعمال وفي ظل هذا الزواج حدث تداخل مشبوه بين سلطة المال وسلطة القرار السياسي وكانت القرارات التي تتعلق بسياسة الدولة في مجالات كثيرة تتم صياغتها وإعلانها في بيوت ومكاتب رجال الأعمال.. وهنا كانت كوارث البنوك وتعويم الجنيه المصري وبيع القطاع العام والاستيلاء علي الاراضي ووصل هذا المسلسل إلي أسوأ درجاته عندما جاءت حكومة رجال الأعمال لكي تقترض في خمس سنوات أكثر من500 مليار جنيه ما بين عامي2005 و2010 ويصل العجز في عهدها إلي أكثر من100 مليار جنيه سنويا ويستولي عدد منهم علي مساحات هائلة من الأراضي والصفقات وتتحول إدارة شئون الدولة المصرية إلي مجرد شركة يديرها عدد من أصحاب المصالح..
< من خطايا النظام السابق وفساده السياسي إهمال قضايا كبري تخص مستقبل هذا الشعب وكان في مقدمتها إهمال ملف مياه النيل وما حدث فيه من تراكمات أساءت للعلاقات التاريخية والاستراتيجية بين مصر ودول حوض النيل.. وكان ملف تنمية سيناء يعكس مهزلة تتجاوز حدود الإهمال وتدخل في نطاق المؤامرة.. يدخل في ذلك أيضا إهمال الزراعة المصرية وتفريغها من محاصيلها الرئيسية كالقطن والقمح والدخول بها إلي ساحة الكانتلوب والخيار مع إهمال جسيم للأراضي الزراعية التي خسرت أكثر من مليون فدان من أخصب أراضي مصر تحولت إلي عقارات ومبان دون حرص من الحكومات المتعاقبة علي حماية ثروتنا الزراعية..
ومع هذا كله كان إهمال الخدمات ما بين السكن والصحة والتعليم والثقافة فكان انتشار العشوائيات والأمراض والأمية وحالة التصحر التي أصابت العقل المصري واهدرت إمكانياته وقدراته..
في ظل النظام السابق تحولت مصر إلي شركة مقاولات حيث لا إنتاج ولا زراعة وأصبحت كل مؤسسات الدولة تعمل في تجارة الأراضي والعقارات وبيع ما بقي من أصول الدولة المصرية..
إن البعض يري أن نغلق ملفات الماضي وننظر إلي المستقبل ولكن الأزمة الحقيقية أن خطايا هذا الماضي هي التي تحمل كل مفاتيح المستقبل ولابد أن ننهي ملفاته أولا خاصة أن أشباح هذا الماضي مازالت حتي الآن تعبث في جسد وطن منهك وتتحكم في كل شيء فيه..
....ويبقى الشعر

ماذا سيبـقي من نواقيس النـفاق سوي المهانة والرياء.
ماذا سيبقي من سيوف القهر
والزمن المدنـس بالخطايا غـير ألوان البلاء
ماذا سيبـقي من شعوب لم تعد أبدا تفرق
بين بيت للصـلاة.. وبين وكـر للبغـاء
النـجمة السوداء ألقت نارها فوق النخيل
فغـاب ضوء الشـمس.. جف العشب
واختنقت عيون الماء
ماتت من الصمت الطويل خيولنا الخرساء
وعلي بقايا مجدها المصـلـوب ترتع نجمة سوداء
فالعجز يحصد بالردي أشجارنا الخضراء
لا شيء يبدو الآن بين ربوعنـا
غير الشــتات.. وفرقـة الأبناء
والدهر يرسم
صورة العجز المهين لأمة
خرجت من التاريخ
واندفعت تهرول كالقطيع إلي حمي الأعداء..
في عينها اختلطت
دماء النـاس والأيـام والأشـياء
سكنت كهوف الضعف
واسترخت علي الأوهام
ما عادت تري الموتي من الأحياء
كـهانـها يترنـحون علي دروب العجز
ينتفضون بين اليأس والإعيـاء
ماذا تبقـي من بلاد الأنبياء ؟
من أي تاريخ سنبدأ
بعد أن ضاقـت بنا الأيـام
وانـطفأ الرجاء
يا ليـلة الإسراء عودي بالضياء
يتسلــل الضوء العنيد من البقيع
إلي روابي القـدس
تنـطلق المآذن بالنداء
ويطل وجه محمد
يسري به الرحمن نـورا في السماء..
الله أكـبر من زمان العجز..
من وهن القــلـوب.. وسكرة الضعفـاء
الله أكـبر من سيوف خانـها
غدر الرفاق.. وخسة الأبنـاء
جلباب مريم
لم يزل فوق الخليل يضيء في الظلماء
في المهد يسري صوت عيسي
في ربوع القدس نهرا من نقاء
يا ليــلة الإسراء عودي بالضياء
هزي بجذع النـخــلة العذراء
يساقط الأمل الوليد علي ربوع القدس
تنـتفض المآذن يبعث الشهداء
تتدفق الأنهار.. تشــتعل الحرائق
تستـغيث الأرض تهدر ثورة الشرفـاء
ياليـلة الإسراء عودي بالضياء
هزي بجذع النـخلة العذراء
رغم اختناق الضوء في عيني
ورغم الموت.. والأشلاء
مازلت أحـلم أن أري قبل الرحيل
رماد طاغية تناثر في الفضاء
مازلت أحـلم أن أري فوق المشانق
وجه جلاد قبيح الوجه تصفعه السماء
مازلت أحلم أن أري الأطفال
يقتسمون قرص الشـمس
يخــتبئون كالأزهار في دفء الشـتاء
مازلت أحـلم..
أن أري وطنـا يعانق صرختي
ويثور في شمم ويرفض في إباء
مازلت أحـلم
أن أري في القـدس يوما
صوت قـداس يعانق ليلة الإسراء
ويطل وجه الله بين ربوعنا
وتعود أرض الأنبياء
من قصيدة ماذا تبقى من بلاد الأنبياء 2000

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
//