ياه، أعرف أن النسيان آفتنا جميعا، ولكن أرجوكم لا تقولوا لى إنكم نسيتم عبدالحميد شتا، باحث الاقتصاد والعلوم السياسية، المجتهد الطموح، الذى انتحر لأنهم حرموه من كذا وظيفة مرموقة بوصفه «غير لائق اجتماعياً»، لأنه ببساطة «ابن ناس غلابة» يعيش فى بلد الثورة المجيدة، ثورة يوليو التى قام بها أولاد الفلاحين والعمال من أجل أن يصبح أولادهم بهوات لا يجرؤ ابن فلاح أو عامل على أن يحلم بحب إحدى بناتهم كما كان يحلم ابن الجناينى بإنجى.
انتحر عبدالحميد شتا، وهاجت الصحف على سيرته بضعة أيام أو قل بضعة أسابيع، ثم ماتت سيرته وماتت معها أسئلة خطيرة لم يكن ينبغى أن تموت أبداً: من الذى يحصل على أهم الوظائف فى الدولة، وهل مازالت هناك أماكن مرموقة تحت الشمس لابن فقير أو بسيط دون أن يلتحق بخدمة الأسياد أو يحصل على مباركتهم وزقة منهم، وأى سلم اجتماعى الذى نشأ فى مصر طيلة الخمسين عاماً الماضية؟، وإلى أى هاوية هبط بنا هذا السلم؟، وهل بات علينا ألا نكتفى بأن نحلم بالعودة إلى أهداف الثورة التى نحتفل بها كل عام، بل نوسع نطاق الحلم ليمتد إلى أيام ما قبل الثورة المجيدة عندما وصل إلى زعامة الأمة ابن نجار بسيط اسمه مصطفى النحاس ليصبح نداً للباشوات والإقطاعيين قبل أن يصبح قائدا لهم بمجهوده وكفاءته وتميزه وليس بانتخابات مزورة أو صدفة عبثية.
أذكر أننى بعد رحيل عبدالحميد شتا كتبت معالجة سينمائية عن قصته الحزينة وأسميتها «غير لائق اجتماعيا»، وظللت لمدة ثلاث سنوات أبحث عن فرصة إنتاجية لها دون جدوى، وكانت الجملة الوحيدة التى أسمعها من الجميع «ياراجل حرام عليك.. الفيلم غامق وماحدش هيخش يشوفه». طبعاً، صح، أعترف أن الفيلم غامق، ولن يكون أحد مضطراً للدخول لرؤيته فى دور العرض، لكن المشكلة أنه لم يعد فيلماً على الإطلاق، بل أصبح واقعاً لا تستوعبه أى دار عرض مهما كان اتساعها، الفيلم أغمق مما نتصور، ولا تنخدعوا بالالتباس الذى رافق قصة أو قصتين من قصص الراغبين فى الانتحار، ولا يخدعكم أنها كانت هوجة وستعبر فى ظل شعب يحب الحياة ويرضى بأى شكل من أشكالها، فالقادم أسوأ بكثير، ولن يكون انتحارا احتجاجيا بل سيكون مجتمعا يأكل بعضه بمليون طريقة وطريقة، ويخطئ كل من يتعامى عن هذه الحقيقة التى ينبغى أن تخيف الجميع أغنياء وفقراء.
لست محتاجا إلى فتوى شيخ لكى أعرف أن الانتحار ليس حلا ولا حلالا، لكنك عندما تشاهد على شاشة التليفزيون صوراً للشارع الذى خرج منه الشاب الإسكندرانى الذى انتحر حرقاً، وهو يطفح بالمجارى حتى حواف أبواب بيوته وينضح بالبؤس والتعاسة، تسأل نفسك لماذا قرر ذلك الشاب أن ينتحر بدلا من أن يأخذ كل من يعيشون معه فى ذلك الشارع البائس ليرموا أنفسهم وعيالهم وحالهم وهمهم أمام باب محافظ الإسكندرية لكى يجبروه على منحهم حقوقهم فى حياة آدمية كريمة، هل كانت الحكومة ستقتلهم جميعا، أو حتى هل كانت ستحبسهم جميعا، بالطبع لا، هم ببساطة لم يفعلوا ذلك لأن كل أبواب الاحتجاج السلمى تم تخويفهم منها، لأن هناك من قتل السياسة فى هذا البلد ظناً منه أن ذلك سيحقق الأمن لأسياده وشركائهم، لأن سكان ذلك الشارع لم يسمعوا عن أبى ذر الغفارى، فهو ليس محبوبا لدى المتشددين الذين فتحت لهم الحكومة أبواب المجتمع مشرعة لكى يعبثوا بعقول الناس، وليس محبوبا لدى المنبطحين الذين حولوا الدين إلى وظيفة يأكلون منها الشهد.
حسنا، المنتحر سيذهب إلى النار، شكرا يا مشايخنا الأجلاء على المعلومة القيمة، ولكن يا ترى هلّا أجبتمونا إلى أين سيذهب الشيوخ الذين يصمتون على ظلم الحكام واستبدادهم وفسادهم، وإلى أين سيذهب الحكام الذين يدفعون ببلادهم إلى التخلف والتطرف والجهل، إلى أين سيذهب اللصوص الذين يثرون من مناصبهم ثم يعلنون محبتهم لمصر ويدعون إلى عمل الخير، إلى أين سيذهب المنافقون والظلمة والجلادون، إلى أين سيذهب الذين يعذبون الناس بالكهرباء والذين يستبيحون حرمة البيوت والذين يقمعون المتظاهرين والذين يفسدون فى الأرض بعد إصلاحها والذين يزوّرون الانتخابات والذين ينشرون الجهل والذين يمسخون روح الفقراء والذين يصنعون فى كل بيت تاجر مخدرات ومدمناً وبلطجياً وفتاة ليل ومنتحراً بوسيلة أو بأخرى، هل سيذهبون إلى الجنة يا حضرات المشايخ؟
كل الكلام أرخص من معاناة الناس، ما الذى سيعنيه هذا الكلام لدى شاب فقد الأمل؟، لا شىء، حتى الذين يقرأون كلامى الآن هم مثلى أناس لديهم أمل ما، وإن بدوا يائسين، لو لم يكن لديهم أمل ولو ضئيل لما اشتروا الصحيفة أو حتى دخلوا إلى موقعها الإلكترونى، ببساطة كلنا بنكلم بعض، كلنا نفضل أن نقول «بُقين حلوين عن الأمل واليأس» مع أننا جميعا نعلم أين مشكلتنا، لكن بعضنا أجبن من أن يواجهوا أنفسهم بالحل.. طيب ما هو الحل، يمكن أن أقول لك على رأى النكتة الشهيرة: بسم الله الرحمن الرحيم: الإجابة تونس، لكن تجارب الشعوب لا ينفع معها «الكوبى والبيست» للأسف الشديد، ومع ذلك فالإجابة الوحيدة التى أعرفها أن هذه البلاد لابد أن تتغير، لأنه لا يمكن أن يكون المشروع القومى لهذه البلاد الآن هو إثبات أن الرئيس كان على حق طيلة الثلاثين سنة الماضية. باختصار حكام هذه البلاد لابد أن يرحلوا ويمنحوها فرصة جديدة، وإلا فإنهم باستمرارهم فى البقاء على كراسيهم يحاولون أن يمنعوا انتحار مئات من الشباب بينما هم يدفعون بلداً بأكمله إلى الانتحار.
belalfadl@hotmail.com
0 التعليقات:
إرسال تعليق